ألقى سماحة الدكتور السيّد جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية …
ألقى سماحة الدكتور السيّد جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية …
تسعة أشهر تقريباً مضت على الحرب الصهيونية المجنونة على غزّة، ومشهدٌ جديد يتشكّل على مستوى العالم.
لم تقتصر المفاجأة للعدوّ على طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من حيث قوة المقاومة الفلسطينية واستعداداتها وثبات الشعب، وإنّما تحوّلت الحرب نفسها إلى مفاجأة مستمرّة بكل المقاييس، حيث خابت كل توقعات العدو على كل المستويات، وبدا رهانه مدوياً في سقوطه على خلفية اعتباره هذه الحرب التي أعلن رئيس حكومة في التاسع من أكتوبر 2023 أنّ هذه الحرب “ستغيّر الشرق الأوسط”، وهي التي تسقط وسقطت على أبواب غزة وجنوب لبنان…
نفتح هنا هامشاً لنقول، إنّ من السذاجة حديث البعض عن فكّ الارتباط بين الجبهات؛ فكيف يمكن فك الارتباط، وكيف لا تتوحد الساحات، وهدف الكيان الصهيوني هو التغيير الشامل للشرق الأوسط، وهو الهدف الذي شكل إعلان حربٍ على كلّ حركات المقاومة، بل على كل الدول العربية التي سيكون عليها أن تخضع للسياسة الإسرائيلية بعد القضاء على كلّ صوتٍ مقاوِم للكيان، بحسب وهمهم.
ولذلك نرى بأنّه، وبمعزل عن الاعتبار الديني والإنساني والأخلاقي في نصرة الإنسان والشعب الذي يتعرّض للإبادة والتهجير في غزّة وسائر فلسطين، فإنّ الانخراط في معركة الإسناد وتعزيز عناصر القوة إنما كانا يهدفان إلى مواجهة حربٍ وجوديّة شاملة أعلنها العدوّ – واهماً بالنصر – منذ الأيّام الأولى لعدوانه على الشعب الفلسطيني.
وفي معركة تاريخية كبرى كمثل هذه المعركة التي تخوضها الأمة اليوم، لا يجوز ترويج السذاجة والتعمية على الناس، من خلال إنتاج خطابٍ انهزامي يقوم على مقارنة الأعداد للقتلى والجرحى والدماء بين المقاومة والشعب وبين العدو، ليصل إلى نتائج تحط من معنويات الأمة، متناسياً أن الخسائر البشرية الباهظة ليست ثمرة حرب مواجهة، إنما هي جرائم ارتكبها العدو، وهي نذالة تتنزه عن ارتكابها الجيوش العالمية التي تحترم نفسها، لأنها فاقدة للشرف العسكري.. هذا جانب أما الجانب الآخر، فإن القضية حين تتصل بحرب وجود شعب ومستقبل وطن، فإن القضايا الوجودية لا تنفصل عن التضحيات؛ وبدلاً من منطقٍ خانعٍ، يبتني على مسلَّمة
أنّ للعدوّ الصهيوني الحقّ في الإبادة للحجر والبشر، وبدلاً من لوم الضحية، لا بدّ من رفع الصوت وإعلان الموقف القوي، والفعل الشجاع من أجل أن يتوقّف الجور والاستكبار والدعم لكل أشكال الجريمة العالمية التي تمارسها الدول والكيانات بحق الشعوب المستضعفة.
إنّنا نشهد ربيعاً حقيقياً في المنطقة، تشكّل فيه إرادة القوّة العادلة القاعدة الأساس، وتتجسّد الوحدة الإسلامية شكلاً ومضموناً، وحركة قضية طياً لصفحة الفتن التي بات واضحاً أنّها كانت صنيعة السياسات الدولية في منطقتنا، ووحدة الدم اليوم ووحدة القضية فرصة حقيقيّة لصوغ حالة نهوضٍ تقوم على التقارب الواقعي بين الدول العربية والإسلامية.
لقد أظهرت الفترة الماضية أنّ العدوّ – الذي تمّ تسويقه على أنّه الدولة الحضارية في المنطقة – يتحرّك بحسّ الانتقام المجنون، ويفتقد إلى العقلانيّة حتى فيما يرتبط بمصالحه، لذا نراه يكابر إلى الآن رافضاً وقف الحرب رغم انسداد الأفق بتحقيق ما يريده من انتصارات.
لقد بات الكيان دولة مارقة مستعدّة للإطاحة، لا بالقوانين الدولية فحسب، بل بالمؤسّسات الدولية نفسها؛ وبات وجودُها رهناً بقمع الحرّيّات، وكمّ الأفواه، وتكريس الديكتاتوريات، وقهر الشّعوب وتحويل العالم إلى غابة.. وقد أصبح على طرف نقيض من كل القيم التي بشّرت بها الحضارة الحديثة وادّعت أنها تلتزم بها.
وعلى خطّ موازٍ، أظهرت قوى المقاومة أنّها تمتلك أكبر قدرٍ من الإيمان، الذي يجعل المقاومة والصمود لبيئتها الحاضنة يعبّران عن أسطورةِ قوّةٍ حقيقية، وفي الوقت نفسه تُنبئ عن قدر عالٍ من العقلانيّة في إدارة المواقف والسياسة في عالم مليء بالألغام، والتي تتحرّك برُشدٍ عميقٍ ومسؤولية كاملة في الالتزام بقوانين الحرب والسلم وقيم العدالة والحرية، وفي الحرص على إنهاء الحرب باعتبارها تحولت إلى جريمة لإبادة شعب يعترف كل العالم بحقه في تقرير مصيره على أرضه..
نعم، نحن نرفع شعار تحرير فلسطين، لأن فلسطين هي حقنا بالكامل، ولا يجوز لا إيمانياً ولا إنسانياً التفريط بالأرض أو القبول بالغزاة على حساب تهجير شعب، فكيف وقد تحول الغزاة إلى قاعدة لكل قوى الاستكبار العالمية الهادفة إلى إخضاع المنطقة والسيطرة على ثرواتها، وطمس هويتها العربية والإسلامية لحساب هوية يكون عنوانها الصهيونية التي تريد التغلغل في كل مفاصل الوضع العربي والإسلامي تحت عناوين التطبيع والسلام، وهي لا تعترف إلا بسلام القبور الذي يضمن هيمنتها ونفوذها…
ونحن على ثقةٍ بوعد الله وسُننه في استعادة الأرض والمصير، وبأنّ هذه الغاية ستحصلُ حتماً؛ فالمسار المستقبليّ بات مسار تحرير، والإرادة الشعبية أصبح أمامها مثالٌ للتحرير، ومثالٌ للصُّمود الأسطوريّ، وغيابٌ للخوفِ؛ والواقع العالميّ الذي مد الكيان بكل عناصر القوة لم يعد كما سبق، فالتناقضات تنخر في داخله والصراع يتفاقم بين مكوناته وسيكون مصير هذا الكيان الغريب هو التآكل من الداخل، وسقوطه بعد تراجع الوظيفة التي أنشئ من أجلها..
وإن وسّع الكيان حربه، وفرض على المنطقة الحرب الشاملة، فالأمّة مستعدّة لتقديم التضحيّات لمرّة أخيرة بإذن الله، وقوى المقاومة والتحرّر، باتت في موقعٍ متقدّم إن شاء الله وتوازن الرعب اليوم يقوم على القاعدة القرآنية: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}، و{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، و{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}”.
أمّا في لبنان، فندعو إلى المزيد من الوحدة الإسلامية والوطنية، والموقف الموحّد، والاعتزاز بحجم القوّة التي ينعم بها لبنان في ظل التوازن الذي فرضته المقاومة ضدّ العدوّ، وأمّا الأصوات الفتنويّة فلا بدّ من أن لا تجد لها آذاناً، وبذلك تُحاصَر، والمواقف التي ترتكز إلى الرهان على انتصار العدوّ، يجب أن تعي أنّ انتصار العدوّ خسارة للجميع، وأن التنازل عن أوراق القوّة، والاعتماد الكلي على الدول المستكبرة، ستؤدي إلى المزيد من الضعف والهوان والتفتيت والفتن الداخلية، وهذا ما رأيناه ونراه في كل ساحة تخلت عن أوراق القوة في مواجهة العبث الدولي، وما مثل السودان اليوم عنا ببعيد…
ونحن اليوم في مرحلة التوازن، وغداً في مرحلة الانتصار… و{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ